رسالة من طفل كريتر إلى من يرى الحوثي مقاوم

البعث نيوز _ صفوان سلطان
إلى أولئك الذين يلبسون وجوه المثقفين ويصفقون في المؤتمرات لمن قتلنا باسم “الثورة” و“المقاومة”…
إليكم أنا، الطفل الذي لم يمت في عقبة كريتر، لكنه لم يَعِش بعدها أيضًا.
كنت في التاسعة من عمري حين خرجنا أنا وأمي وأخي الأكبر بحثًا عن الماء في صيف عام 2015 عندما اقتحمت كتائب الموت التابعة للحوثي مدينتي عدن.
كنا ثلاثة: امرأة أنهكتها الأيام، وطفلان فقدا الأب مبكرًا، وصار البيت بلا ظلٍّ يحميه إلا عيونها.
كانت تمسك بيدي وتهمس لي: “نمشي معًا يا حبيبي، الماء قريب.”
وأخي كان يسير أمامنا، يحمل الجالون الفارغ كمن يحمل الأمل فوق كتفه.
لم نكن نعرف أن في نهاية الطريق قنّاصًا ينتظرنا.
لم نكن نحمل إلا الحياة، لكنها كانت بالنسبة لهم تهمة.
من عتمةٍ في جبل شمسان خرج الرصاص، يخترق الهواء كما يخترق الدعاء صدر السماء، ويستقر في جسد أخي.
سقط بين ذراعيها كغصنٍ أخضر قُصِف قبل أن يثمر.
صرختُ، ولم أسمع صوتي، فقط سمعت أنين أمي وهي تضغط على جرحه بيديها العاريتين، تناديه باسمه وكأن النداء قادر أن يردّ الروح إلى الجسد.
ذلك اليوم لم يمت فيه أخي وحده، بل ماتت فينا الطفولة.
ماتت فكرة أن “الأمهات لا يُقتلن”، أن “الأطفال محرمون على الرصاص”، أن الحرب تفرّق بين مقاتلٍ ومدني.
لقد علّمني الحوثي أن حتى الماء يمكن أن يُطلَق عليه النار.
مرت السنوات يا سادة، كبرتُ وأنا أحمل رائحة الدم والماء معًا.
كلما سمعت رصاصة، عاد إليّ صدى ذلك اليوم:
وجه أخي، يديه المرتجفتين، وجسد أمي المرتعش وهي تصرخ بين غبار الحرب، دمعة حارة احرقت خدي ولازال اثرها حتى اليوم.
أما أمي، فالحرب لم تخرج منها قط.
كوابيسها تزورها كل ليلة، تصحو فزعةً تنادي اسمي، تظنّني ما زلت ذاك الطفل الذي تركته بين يديها في العقبة.
وحين تطمئن أني عدت إلى الحياة، تنظر إلى الجدار وتبكي، لأن أخي لم يعد.
تعيش اليوم بين الموت والنوم، وبين الذكرى والرعب.
وأنا؟
كلما رأيت صوركم وأنتم تصفقون في القاعات لمن قتلنا، أتساءل:
هل كانت رصاصة القنّاص أرحم من تصفيقكم؟
هل تعرفون ما معنى أن تفقد أمك ابنها برصاصة، ثم تراها تفقد عقلها بتصفيقكم؟
أنتم الذين جلستم تتحدثون عن “دعم عبدالملك الحوثي لفلسطين” ، هل رأيتم كرامة طفلٍ سُفك دمه وهو يبحث عن ماء بيدي اتباع ذلك الارهابي الذي ترون فيه مقاوماً قومياً عربياً؟
هل تعلمون أن الرصاصة التي قتلت أخي لم تقتل جسده فقط، بل أصابت ذاكرة المدينة كلها؟
عدن ما زالت تتذكره، تمامًا كما تتذكرون أنتم أسماء مؤتمراتكم وفنادقكم، لكن بفرقٍ واحد: أن ذاكرتنا تنزف، وذاكرتكم تصفق.
أيها السادة،
أنا لا أكتب هذه الرسالة لأنتقم، بل لأذكّركم بأن القنّاص لم يكن وحيدًا.
كان خلفه صمتكم، وتصفيقكم، ومقالاتكم التي جعلت من القاتل بطلاً ومن الضحية ظلًّا.
أنا الطفل الذي كبر، لكن جرحه لم يكبر معه.
الذي ما زال يسمع في كل حلم صوت أمه وهي تصرخ: “لا تطلقوا النار… معنا أطفال.”
لكنهم أطلقوا النار، ولم يسمعهم أحد.


