مقالات

مقهى عبدان.. حيث يبرد الشاي وتغلي الهموم

البعث نيوز

بقلم : صفوان سلطان

بخطواتٍ ثقيلة وأنفاسٍ تتلاحق لتزاحم هواء الزفير الخارج من صدري، وذاك العرق الممزوج بملوحة الجو، دخلتُ إلى المقهى التاريخي القابع بين أزقّة حافة حسين في كريتر — مقهى «عبدان» الذي كان خالي محمد سعيد يصطحبني إليه صغيرًا لأرتشف الشاي الملبن بـ«السيسر» لا بالأكواب.
جلست على المقعد الخشبي العتيق نفسه، فأنّ تحته الخشب حين ألقيت بجسدي فجأة، كأنما يحتجّ على تعبٍ متوارثٍ من جيلٍ إلى جيل.

على الطرف الآخر من الطاولة، جلس رجل مسنّ، تجاوزته السنون لكن لم تتجاوزه الحسرة. كانت بقايا الشعر الأسود في رأسه خيوطَ ليلٍ في نهارٍ شاحب. رمقني بنظرةٍ حائرة وسأل بصوتٍ مبحوح:

“تحب شاي بالسيسر ولا قدك من جماعة الايس كوفي؟”

ابتسمتُ وقلت:

“لا .. لا شاي عبدان القديم… بطعمه الذي يذكّرنا أن الدنيا كانت أهون وأصدق.”

ضحك العجوز وقال:

“أيام يا ولدي، كنا نشرب الشاي ونضحك على غلاء الريال، واليوم نضحك كي لا نبكي على راتب لا يكفي ثمن هذا الشاي.”

ساد الصمت لحظة، تخلّلها صوت مروحةٍ متعبةٍ تحاول عبثًا أن تطرد قيظ كريتر. ثم مال نحوي وهمس:

“تعرف كم راتبي بعد أربعين سنة خدمة؟ لا يكفي شاهي وخمير لأسبوع واحد. المتقاعد اليوم يشحذ الكرامة كي يشتري دواء الضغط، والمعلم ينتظر حول وزارة المالية كمن ينتظر صدقة.”

قلت له وأنا أراقب أبخرة الشاي تصعد كأنها أرواح الناس من قهرهم:

“البلد يا عمّي صارت كأنها بدون قلب. السلطة تغيب، والوعود تُقال كما تُقال النكات، والمواطن هو من يدفع الثمن.”

هزّ رأسه بأسى وقال:

“يا ولدي، سلطة لا تقدر تصرف راتب موظف، كيف تستعيد وطن؟
سلطة تحتاج لتبرير كل فشلها بالظروف، لن تبني دولة.
والناس في عدن تعبوا من الصبر… حتى البحر، يا ولدي، ضاق من همّهم.”

لم أجد ردًا. فقط نظرت إلى طاولتنا الخشبية التي تخطّ عليها بقع الشاي والملح وعرق السنين.
في الخارج، كان المقهى يزدحم بروّادٍ لا يبحثون عن الشاي بقدر ما يبحثون عن من يسمعهم.
عن وطنٍ يُنصت إليهم، لا وطنٍ يرهقهم بالصمت.

رفع العجوز فنجانه وقال:

“اشرب يا بني، هذا آخر ما تبقّى لنا من طعم الوطن.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!