مقالات

من موسكو: العليمي بين سبع غُصَص ونقاط مضيئة

البعث نيوز ـ بقلم / د. علي العسلي

أشعر بغُصّةٍ عميقةٍ في حلقي وقلبي، وأنا أتابع مشهد الاستقبال الحار وغير المعتاد الذي خصّ به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره اليمني الدكتور رشاد العليمي. لم يكن ذلك مجرد استقبال بروتوكولي عابر، بل حمل في طيّاته رسائل سياسية واستراتيجية عميقة تتجاوز مظاهر الاحتفاء السطحي.

ومرَدُّ الغصّة أن بعضًا من اليمنيين قلّلوا من أهمية الزيارة، واستخفوا بها، ووصفوا الرئيس بالضعيف، فقط لأنه كان صريحًا مع شعبه في مقابلته مع قناة “روسيا اليوم”.

تحية لبوتين ورسالة للعالم

لله درّ الرئيس الروسي! كأنه، من خلال هذا الاستقبال الحميمي، أراد أن يقول للعالم:

“الشرعية اليمنية ليست وحيدة… نحن نعترف بها ونكرمها، وندعوها شريكًا في القمة العربية-الروسية المرتقبة في أكتوبر المقبل.”

وكان ذلك، في الوقت ذاته، نفيًا ضمنيًا للاتهامات الأنجلو-ساكسونية بتزويد الحوثيين بالصواريخ والمعلومات الاستخبارية.

وإن كان من تأثير لروسيا والرئيس بوتين على الحوثيين، فجلبهم للسلام الحقيقي بضمانات روسية سيكون خدمة لليمن واليمنيين، وعلاقاتهم المتميزة التي امتدت لما يقارب قرنًا من الزمان.

لقد بدا هذا المشهد الروسي وكأنه يُعوّض الشرعية اليمنية عن البرود الأمريكي السابق، منذ أن زار ترامب المنطقة وفتح قنوات تفاهم مع الحوثيين، متجاهلًا الحكومة الشرعية. وكأن بوتين يقول بلسان حاله:

“إذا تخلّى ترامب عنكم، فنحن هنا… لا نعترف إلا بالدولة اليمنية الشرعية، وسنجعل الحوثيين ينهون انقلابهم وتمردهم.”

السبع الغُصَص

  1. الغُصّة الأولى: الطائفية البغيضة

تبدأ الغُصّة من أولئك الذين لا يرون في الرئيس العليمي سوى “شافعي ضعيف”، لأنهم ما زالوا يعتقدون أن الرئاسة لا تليق إلا بزيدي من “المركز المقدّس”!

أليس ما حلّ بالبلد من حروب ودمار وفتن كافيًا ليتخلّوا عن هذه الخرافات المذهبية والطائفية المريضة؟

  1. الغُصّة الثانية: السخرية بدل التضامن

ثانية الغُصَص من موجة التهكّم والسخرية التي نالت من الرئيس بعد لقائه مع قناة “روسيا اليوم”، حين تحدّث بصراحة عن واقع اليمن “دون رتوش”، وعن تحديات الشرعية.

بدلًا من التضامن مع شجاعته ودعمه للحصول على السلاح اللازم لحماية المؤسسات الدستورية والمنشآت الحيوية، سارع البعض إلى تسفيه ما قاله.

ليتهم استذكروا كيف أن الشعب التركي هبّ دفاعًا عن مؤسساته عندما غرد أردوغان في لحظة خطر وجودي، فأنقذوا ديمقراطيتهم لا بالتغريدات الساخرة، بل بالفعل الشعبي الواعي.

  1. الغُصّة الثالثة: ظلم البند السابع

حين تحدث الرئيس بصراحة عن معضلة “البند السابع”، الذي يُكبّل الشرعية ويمنعها من التسلّح، بينما يُترك للحوثيين حرية الاستيراد والتصنيع والتمدد المسلح!

أي منطق دولي هذا الذي يُساوي بين الضحية والجلاد، ويُعادل بين الشرعي والمنقلب؟

  1. الغُصّة الرابعة: عجز لا يليق برئيس

حين أشار الرئيس إلى أنه لم يستطع حتى مفاتحة الروس بطلب منظومات دفاع جوي لحماية المطارات والمنشآت المدنية، لا لعجز شخصي، بل لأن قرارات مجلس الأمن تمنعه، بينما يصول الحوثي ويجول بطائرات مسيّرة وصواريخ إيرانية الصنع!

  1. الغُصّة الخامسة: خذلان دولي للشرعية

عندما أكّد الرئيس أن الضغوط الغربية هي التي منعت تحرير الحديدة بفرض اتفاق ستوكهولم، وبالتالي سحب قوات الشرعية من مشارف ميناء الحديدة، لا كما قيل وقتها عن “إعادة الانتشار”!

لأول مرة، يقولها الرئيس بهذه الصراحة الموجعة.

  1. الغُصّة السادسة: عبثية المشهد اليمني

حين كشف الرئيس أن الحوثيين هدّدوا بقصف مطار عدن إن لم تُعَد الطائرة الرابعة إلى صنعاء، فاستجابت الشرعية… لتقوم بعدها إسرائيل بقصف نفس الطائرة!

إنه مشهد عبثي صارخ، يكشف هشاشة الموقف، وسيطرة منطق البلطجة المسلحة.

  1. الغُصّة السابعة: تسوية مع قاتل!

والغُصّة الأخيرة، حين تحدّث عن وجود من لا يزال داخل أروقة السلطة، وفي الإقليم، والعالم، من يفكّر بتسوية سياسية مع الحوثيين، وكأن أحد عشر عامًا من الخيانة والدمار لم تكن كافية لفضح هذه الجماعة!

نقاط مضيئة في حديث الرئيس

ورغم كل هذه الغُصَص، فإن حديث الرئيس العليمي لم يخلُ من نقاط مشرقة ومواقف مسؤولة تستحق الاحترام:

نفى وجود دعم روسي للحوثيين، مؤكدًا أن موسكو لا تؤمن بسلطة دينية طائفية، بل تؤيد الدولة اليمنية، وتستعد للاحتفال معها بمئوية العلاقات الدبلوماسية.

أشاد بتنوع مجلس القيادة الرئاسي، مشيرًا إلى أنه وإن لم يكن منسجمًا بالكامل، إلا أنه يُدار بالتوافق، وإذا ما اختلفوا، فهناك مرجعية بالتصويت الديمقراطي، وقد حُسمت قرارات مهمة بهذا التصويت دون خلاف.

أكّد أن المجتمع الدولي، رغم مهادنته المؤقتة للحوثيين، لا يرى فيهم شريكًا موثوقًا، بل جماعة عدمية لا تؤمن بالسلام.

شدّد بوضوح أن لا سلام مع الحوثيين إلا بالاستناد إلى المرجعيات الثلاث: المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن.

وقالها صراحة:

“الدولة ستعود، سِلْمًا أو حربًا!”

تعليق ختامي

ما قاله الرئيس في موسكو يجب أن يُقرأ جيدًا، لا ليُسخر منه، بل ليُبنى عليه.

لقد عرّى الرجل واقع اختلال موازين القوى، وكشف أوراق الضغط الحوثية، وأعاد تذكير الجميع بأن تسليح الجيش الوطني ضرورة وطنية ومصلحة عالمية.

وذكّر بأن البكاء على الواقع لا يُغيّر شيئًا، بل المطلوب هو إعادة رسم المشهد بعقلانية وإرادة.

ينبغي أن يعلم الجميع أن الحوثيين، رغم قسوتهم وهمجيتهم، ليسوا قوة لا تُهزم… بل يمكن تحجيمهم إذا توفرت الإرادة الوطنية الخالصة، واستجاب العالم لمطالب الشرعية.

الخاتمة

زيارة موسكو كانت محطة فارقة في مسار العلاقات اليمنية الخارجية، ومنحت الشرعية دفعة معنوية لتعزيز العلاقة الاستراتيجية، ورسالة واضحة:

“لسنا وحدنا!”

فعلى الرئيس العليمي أن يلتقط هذه الرسائل بعين البصيرة، ويبني عليها تحالفًا دوليًا جديدًا، يُنقذ اليمن من أنياب الطغيان الحوثي، ومن خذلان بعض الأشقاء قبل الأعداء.

نعم… ما زلت أشعر بغُصَصٍ أخرى…!


مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!