مقالات

صنعاء… رهينة في يد الولاية……


البعث نيوز ـ بقلم : صفوان سلطان

رحلة في مدينة اختُطفت من عقلها، وسُلّمت لفكرة لا ترحم
عدتُ إلى صنعاء لا كزائر، بل كمن يمشي في ذاكرته… خطوة تليها الحيرة، ثم الألم. المدينة التي كنت أعرفها ضجّة وعلماً وفكراً، صارت اليوم هامدة، تمشي تحت ظلال الصرخة، وتعيش على هوامش كتاب لا يشبهها.

منذ اللحظة الأولى، تشعر أن المدينة ليست بخير.
الجدران تنطق بما لا يفكر به الناس، كل زاوية مرسومة بعبارات الحرب والموت، وكل واجهة مبنى حكومي مغطاة بشعارات ثقيلة، لا تحمل معنى إلا لمن كتبها، لكنها مفروضة على الجميع.

دخلت شارعاً كنت أعرفه جيداً، كان مزدحماً بالطلبة، بالبائعين، بالكتب… اليوم، مزدحم بالفراغ.
رأيت كُتباً علمية تُباع على الرصيف كما لو كانت خردة، لا أحد يلتفت، لا أحد يشتري. سألت البائع، وكان يبدو خريجاً جامعياً:
– “أين زبائنك؟”
– قال: “في الدورات… هناك يتعلّمون الولاية، لا الفيزياء.”

تقدّمت أكثر نحو مبنى وزارة كنت قد عملت فيها ذات يوم، دخلت من الباب الخلفي حتى لا أُمنع. لم أجد موظفين ببدلات رسمية، بل رجالاً يرتدون الزي الميداني، يُلقون محاضرات عن “الولاية”، ويُوزّعون ملازم مكتوبة بلغة تعبويّة غريبة، لا علاقة لها بإدارة ولا بتخطيط ولا بوطن.

قلت لأحدهم:
– “من أنتم؟”
فقال بثقة جارفة:
– “نحن المشرفون، نأمر فنُطاع.”

تابعتُ المسير، بحثاً عن وجه مألوف، عن أي مظهر طبيعي. في أحد المطاعم، وجدت شاباً يعمل نادلاً، لم أتعرّفه إلا بعد لحظة. كان الأول على دفعته في كلية الهندسة، يوماً ما حلم ببناء مدينة ذكية، اليوم يحمل الصحون ويتجنب الحديث. سألته:
– “أين مشروعك؟”
فأجاب بنبرة محطّمة:
– “ضاعت الأحلام في زمن لا مكان فيه إلا للولاية.”

وحين حلّ المساء، فتحت التلفاز، لعلّي أرى خبراً يمنحني أملاً. لكن كل القنوات الرسمية تتسابق في بث الخطب المكررة: تمجيد لعبدالملك الحوثي، ترويج لنبوءة “اليماني”، تحذيرات من “المؤامرة الكونية”.
حتى النشرات الإخبارية تحوّلت إلى نشرات طقسية، فيها البقاء للأكثر انصهاراً بفكرة الولاية، لا الأذكى ولا الأجدر.

وفي اليوم الأخير من زيارتي، مررت على مدرستي القديمة. مغلقة، مغبرة، وبابها مُقفل بسلسلة صدئة. وعلى الجدار عبارة كتبت بخط مرتجف:
“لا تعليم بلا صرخة… ولا صعود بلا ولاية.”

وقفت طويلاً أمامها، ورأيت طفلاً ينظر للباب المغلق، يحمل حقيبته وكأنها عبء لا جدوى منه. سألته:
– “ليش ما دخلت المدرسة؟”
– قال: “قالوا لنا نردد الشعار أول، وبعدين يعلمونا!”

لم أعد أستطيع المشي… شعرت أنني في مدينة ليست لي. مدينة اختطفتها فكرة، وسُحبت من عقلها، وحُشيت بالخرافة بدل المنطق.

وقفتُ أخيراً على ربوة تطل على صنعاء. سألت نفسي:
هل هذه هي المدينة التي عرفت؟
هل هذا هو الوطن الذي حلمنا به؟

الختام؟

لم يكن على الجدران التي اختنقت بالشعارات،
ولا في القنوات التي تبث الهذيان،
ولا في المكاتب التي يديرها الجهل باسم الولاية.
الختام الحقيقي… كان في أعين الناس الذين ما زالوا يحاولون النجاة بصمت.
ناسٌ يؤمنون أن هذا الكابوس سينتهي…
أن العقل سيعود، والصوت سيعلو، والقيد سينكسر.
هؤلاء وحدهم… هم الجواب.
فمن لا يزال يحمل الكتاب تحت عباءته،
ومن يهمس بالحقيقة في زمن الصرخة،
ومن يزرع حلماً في أرضٍ أنهكتها الخرافة…
هو من يكتب الختام الحقيقي لهذه القصة.
قصة وطن… لم ولن يموت.

لكن – وأقولها بفزع لا يخلو من رجاء –
إن استمرت فكرة “الولاية” بهذه الطريقة،
وإذا بقيت صنعاء رهينة في يدها،
فليس فقط الدولة من ستموت…
بل سيموت العقل… والكرامة… وحتى المعنى.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!