من سرق ظلام تعز؟ الحرب الخفية التي أفقرت المدينة وأطفأت أنوارها

البعث نيوز _ امين الحاج
لم تكن الحرب في تعز مقصورة على القذائف والرصاص فقط، بل شُنت حرب أخرى، أكثر خبثًا وتعميدًا، استهدفت عصب الحياة الحديثة: الكهرباء. لقد كانت جريمة مكتملة الأركان، نفذت في وضح النهار وعلى مرأى من الجميع، لتحويل المدينة التي كانت تُعرف بـ”عاصمة الثقافة اليمنية” إلى غابة إسمنتية تغرق في ظلام دامس منذ أكثر من عقد.
هذه ليست قصة انهيار خدماتي عابر بسبب الحرب، بل هي قصة تدمير ممنهج للبنية التحتية لشبكة الكهرباء الحكومية في المناطق الخاضعة للشرعية في تعز، عملية منظمة بدأت بيد فنية خبيرة ومرت بصمت مسؤولين وتواطؤ أمني وانتهت بتجارة مربحة أطعمت جيوبًا فاسدة على أنقاض أحلام مدنية بأكملها.
الجريمة: نهب منظم وليس فوضى حرب
في منتصف عام 2017، بدأت ملامح الكارثة تظهر.
لم تكن أعمال نهب عشوائية، بل عمليات مسلحة ومنظمة تستهدف “منشآت حيوية” بعينها.
· محطة تحويل مدينة النور (33/11 ك.ف): الواقعة غرب المدينة، كانت تحتوي على محول رئيسي بقدرة 10 ميجاواط و(6) قواطع كهربائية تغذي المنطقة الغربية.
نُهبت بالكامل،الكابلات الأرضية والأسلاك الهوائية النحاسية والألمنيوم الممتدة لعشرات الكيلومترات.
· محطة تحويل الضبوعة (33/11 ك.ف): في قلب المدينة، لقيت المصير نفسه. سُرقت محولاتها ذات القدرات المختلفة (1000 ك.ف, 500 ك.ف, 200 ك.ف) والتي يبلغ عددها عشرات المحولات، جنبا إلى جنب والكابلات المغذية للأحياء المركزية.
· مخازن كهرباء تعز (شعب سليط): كانت كنزًا مخفيًا. تم نهبها بالكامل، بما فيها معدات وأجهزة وكابلات لـ ثلاث محطات تحويلية توسعية جديدة، قدرة كل منها 10 ميجاواط، تم استيرادها قبل الحرب مباشرة ولم تر النور أبدًا.
هذه العمليات لم تكن عمل سرق عاديين. كما أكد مسؤولون في وزارة الكهرباء والطاقة في عدن في ردهم على شكاوى مقدمة: “هذه السرقات لا يمكن أن تكون عشوائية إذ تتطلب عمليات مثل تفريغ زيوت المحولات وفصل الكوابل النحاسية خبرة فنية متقدمة”.
وياتي السؤال الي يصرخ لماذا التواطؤ والصمت الرسمي
السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بإلحاح كيف يمكن لهذا النهب الضخم والممنهج أن يحدث دون علم أو مساءلة؟
- أين كانت الأجهزة الأمنية والعسكرية؟ كيف تمر شاحنات محملة بأطنان من المعدات الثقيلة والنحاس عبر حواجزها المنتشرة دون توقيف؟
- أين كان مسؤولو كهرباء تعز؟ لماذا لم يبلغوا الجهات القضائية والأمنية بشكل رسمي وفعال؟ وإن قدموا بلاغات، فأين نتائجها؟
- أين كانت قيادة السلطة المحلية؟ هل يعقل أن تكون جاهلة بما حدث؟ وإن كانت جاهلة، فذلك اختراق كارثي لمؤسسات الدولة. وإن كانت تعلم، فلماذا سكتت؟
الصمت الرسمي كان هو الرد الوحيد. بل والأكثر إيلامًا، أن رد السلطة المحلية على شكاوى “لجنة الدفاع عن ممتلكات كهرباء تعز” كان شرعنة للفساد عبر الترخيص غير القانوني لتجار “الكهرباء الخاصة” لاستغلال ما تبقى من الشبكة الحكومية بدلاً من ملاحقة المجرمين وإعادة التأهيل.
تجارة النحاس: الجريمة المنظمة والتصدير تحت الحماية
من قلب الخراب، ولدت تجارة قذرة. برز تجار محليون يشترون النحاس المسروق بأسعار زهيدة (حوالي 500 دولار للطن)، لبيعه بأسعار السوق العالمية التي تتجاوز الضعف.
لكن الأهم من البيع المحلي هو مسار التصدير. تحقيقاتنا حصلت على وثائق ومعلومات مؤكدة تفيد بأن كميات كبيرة من النحاس المسروق تم نقلها عبر شاحنات ثقيلة تحت حماية مسلحة إلى محافظة عدن، بل وتم احتجاز بعضها في نقاط عسكرية، قبل أن يتم الإفراج عنها لاحقًا دون أي تفسير.
كيف تمر أطنان من النحاس الخام، وهي مادة إستراتيجية، عبر حواجز المخابرات العسكرية والأمن السياسي المعروفين بصرامتهما في تفتيش الشاحنات الداخلة إلى عدن والخارجة منها؟ هذا لا يشير إلى تواطؤ أفراد فحسب، بل إلى شبكة فساد منظمة تخترق أجهزة الدولة ذاتها.
الضحايا: اغتيال اقتصادي وتهجير قسري
الضحية ليست أبراجًا وأسلاكًا، بل هم أهل تعز ومدينتهم .
كان تدمير الكهرباء ضربة قاصمة للاقتصاد والاستقرار الاجتماعي:
· تهجير رؤوس الأموال والعقول: هجرة معظم المستثمرين وأصحاب الكفاءات العلمية والمهنية إلى محافظات أخرى أو خارج اليمن، بحثًا عن بيئة مستقرة.
· إغلاق المصانع والورش: توقف عجلة الإنتاج، مما أدى إلى فقدان عشرات الآلاف من العمال والموظفين لمصدر رزقهم.
· تشريد الأسر: بما في ذلك أكثر من ألفي أسرة كان عائلها يعمل في مؤسسة كهرباء تعز ومحطتي العصيفرة والمخاء المتوقفين.
ما جرى هو أكثر من سرقة؛ إنه اغتيال اقتصادي ممنهج لمدينة، وتدمير متعمد لأحد مقومات السيادة، جرى على مراحل وتحت سمع وبصر من كان من المفترض أن يكونوا حماة للمال العام.
لتظهر المأساة الأكبر أن كل هذه الوقائع المروعة مرت دون فتح أي تحقيق جاد، ودون مساءلة أي مسؤول، كبيرًا كان أم صغيرًا. الصمت الرسمي هو إجابةٌ بحد ذاته.
والحقيقة ستظل مغيبة ما لم يُفتح تحقيق مستقل وشامل تحت إشراف القضاء، تُحاسب فيه كل الأيدي التي سرقت أو سهلت أو سكتت. مستقبل تعز، وكرامة أهلها، واستعادة ألقها مرهونون بكشف هذه الجريمة ومحاكمة مرتكبيها. فالبلد لا يُبنى على أنقاض الصمت، ولا مستقبل لطاقةٍ سُرقت أسلاكها وأحلامها معًا.


